الغموض الأسطوري لهرم كوكولكان وتشيتشن إيتزا

هرم كوكولكان

هرم كوكولكان، أو “إل كاستيو” كما يسمّيه علماء الآثار، يقف شامخًا في موقع تشيتشن إيتزا بمنطقة يوكاتان في المكسيك، كأيقونة حضارة المايا. لم يكن هذا الهيكل مجرد بناء حجريّ هائل بل كان مركزًا روحانيًا وسياسيًا وفلكيًا يتجاور مع بقية منشآت المدينة، ليعكس رؤى المايا عن الكون، الزمن، الدين و الفلك.

بمجرد أن تنظر إلى الهرم، تشعر كما لو أنّه شريانٌ ينبض بالحياة، يحمل في طياته أسرارًا مدفونة تنتظر مَن يكتشفها. وما يزيد الأمر إثارةً أنَّ هذا الصرح لم يكن مكرّسًا لمجرد مراسم عبادة، بل كان مقرًّا للاحتفالات الكبرى، و الطقوس الناشطة لتكريم “كوكولكان” ; إله المايا ذو الريش الذي يشبه الثعبان، ومصدر تجسيد الالولهية والملك في آنٍ واحد, وهو ما سنستعرض تفاصيله في هذه المقالة المليئة بالمعلومات الصادمة والمفاجآت الأثرية الحديثة التي قلبت فهمنا التاريخي رأسًا على عقب.

الفصل الأول: من هو كوكولكان؟ الإله-الثعبان بين السماء والأرض

تحتلّت أسطورة “كوكولكان” مكانةً مركزية في العقيدة المايانية؛ ففي لغتهم يعني اسمه : الثعبان ذو الريش، و قد جسّد واجهةً إلهية لحضارة المايا التي عبّرت عن مفهومي الأرْضيّ والسماوي بتجسيد مخلوقات تنتمي إلى السماء (الطيور بريشها) وتنتمي إلى الأرض (الثعابين بزحفها)، فاجتمعت في “كوكولكان” الصفة السماوية المتمثلة بريش الطير، مع الصفة الأرضية المتمثلة بجسد الثعبان. لهذا كان يُنظر إليه كوسيط بين السماء والأرض، فهو بمثابة “محرك الطاقة” الذي يجمع بين العالم المادي والعالم الروحي، وهو صانع الخيرات، ومانح الحكمة، ومزود الأرض بالخيرات الزراعية.

كوكولكان في الأساطير المايانية

تروي الأساطير المايانية أنَّ “كوكولكان” كان مرادفًا للتجدد والخصوبة، وانبثاق الحياة بعد الموت. إذ كان يعتقد أنّه عندما يبدأ في النزول من السماء على هيئة مطرٍ أو رياحٍ منعشة، فإنّه يُحرّك الكون ويوقظ الأرواح النائمة في الأرض. وكان يُرتبط بظاهرة الاعتدال الربيعي والخريفي، حيث يظهر انحناء الظلال على مدرجات الهرم ليشكّل جسد .الأفعى في فصل الربيع والخريف، في اعترافٍ صريحٍ من المايا بأهمية دورة الفصول والزمن كدائرة لا تنتهي، تترابط فيها السماء والأرض

ظهور الأفعى بمناسبة الاعتدالين

في يومي الاعتدال الربيعي (حوالي 20-21 مارس) والاعتدال الخريفي (حوالي 22-23 سبتمبر)، يؤدي موقع الشمس ووضعها الزاوي على الجهة الغربية من الهرم إلى أن تتكوّن ظلال متتالية تنحني على مدرجات الدرج الغربيّ للهرم، فيتخيل الناظر أنَّ “كوكولكان” ينزل من السماء على هيئة أفعى ضخمة مصنوعة من الظل والنور معًا، حتى تصل الظلال إلى قاعدة الهرم وكأنّ الأفعى تستقرّ عند عتبة الأرض .

ظل كوكولكان على الدرج

الدلالة الزمنية والزراعية

ربط المايا بين حركة الشمس ودورات المياه الزراعية؛ فرؤية “كوكولكان” على شكل ثعبان ضخم يُنذِر ببدء موسم الأمطار الذي يغذي الأرض ويثمر محاصيل الذرة، وهي الغذاء الأساسي للمايا. لهذا، كان الهرم نقطة ارتكاز لنظام زراعي معقد مبني على تقويم فلكي دقيق المواعيد.

الفصل الثاني: تشيتشن إيتزا ــ من الهيكل الفلكي إلى العاصمة الدينية والسياسية

تأسّست مدينة تشيتشن إيتزا بين القرنين السادس والتاسع الميلاديْن (550-800 م تقريبًا)، وقد أصبحت في وقتٍ لاحق من القرن العاشر مركزًا تجاريًا وسياسيًا رئيسيًا يهيمن على المنطقة الشمالية من شبه جزيرة يوكاتان.

إلى جانب هرم كوكولكان، تضمّ المدينة معابد رائعة أخرى مثل “معبد المحاربين”، و”معبد ألف عمود”، و”الكولومبوس”، وساحة الألعاب الكبيرة (البالانك) التي نُقش على جدرانها مشاهد للعب الكرة الطقوسيّ. وكانت الأحواش والزخارف النحتية تضمّ رسومات تمجّد الأبطال الأسطوريين، وتُظهر شفراتُ العظام البشرية التي تُشير إلى طقوس التضحية البشرية كجزءٍ من العبادات المكرّسة لـ”تشاك” إله المطر والخير والزراعة عند المايا .

التشابك بين حضارات المايا والأزتك

على الرّغم من أنّ تشيتشن إيتزا مآثرٌ للمايا، إلا أنّ حضارة الأزتك (التي ازدهرت في وسط المكسيك من القرن الخامس عشر حتى القرن السادس عشر الميلادي) اعتبرت هذا الموقع مكانًا مقدسًا، وكانوا يزورونه بقافلة حجّ واستكشاف للاستفادة من المشاهدة الروحية والمناظير الفلكية المدهشة. وعلى الرغم من أن الأزتك لم يكونوا بنّائين لهذا النصب، إلّا أنهم زوّدوه بالحرفيين، وأدخلوه ضمن دائرة التحالفات والمواثيق السياسية التي سيطرت عليها المديرية “تيسيلان” في تينوشتِتلان (عاصمة الأزتك).

دور الأزتك في إعادة التأثيث الروحي

أشرف مسؤولون دينيون من تينوشتِتلان على طقوسٍ مشتركة مع الكهنة المايا هناك، لتوحيد لغة الدين والسماء مع لغة السياسة والقوة العسكرية، ما جعل تشيتشن إيتزا بمثابة “قناة روحية” تجمع بين الشمال (حضارة المايا) والوسط (حضارة الأزتك) .

التوزيع العمراني المدني والديني

تظهر الدراسات الأثرية الحديثة أنّ تشيتشن إيتزا لم تكن مجرد معابد هائلة، بل شبكة حضرية متكاملة الأقسام السكنية للأعيان اكتشف علماء الانثروبولوجيا في ساحة “كولومبوس” ما اعتُبر أول مساكن عائلات نخبويّة

و “بيوت القضاة” التي نُقشت فيها ألقاب النبلاء والمستشارين السياسيين، وعثر بداخلها على قربان من الذهب الخالص ومجوهرات كانت تُقدم للإله كوكولكان كجزء من مراسم التكريم. و تُظهر التنقيبات وجود ورش حرفيّة متطورة لنسج الأقمشة وصناعة الأدوات الحجرية. و وجود أسواق مركزية في الساحات المفتوحة، حيث كان يبيع التجار سلعًا مثل الذرة، والفاصولياء، والفخار المزيّن بنقوش معبّرة عن آلهتهم ورسوماتهم الفلكية

الفصل الثالث: البنية الإنشائية والابتكارات المعمارية في هرم كوكولكان

يمثل هرم كوكولكان (ارتفاعه نحو 30 مترًا، وعرض القاعدة نحو 55 مترًا) تحفةً فلكية وحسابية؛ فقد صُمم بحيث يُعبّر عن التقويم الماياني ويتضمّن أربعة سلّمات رئيسية، كلّ منها مكونة من 91 درجة، بالإضافة إلى الدرج العلوي، ليبلغ مجموع الدرجات 365، في تمثيل دقيق لعدد أيام السنة الشمسيّة المايانية. وتحتوي الواجهة الشمالية على شلالٍ مائي يبدو مع بداية الربيع كممرّ للتعبير عن نزول “كوكولكان” من السماء .

البنية المعمارية والدلالات الرمزية لهرم كوكولكان

يُعدّ هرم كوكولكان معجزة هندسية وروحية، تم تصميمه وفقًا لتقويم المايا، حيث يعكس في درجاته أيام السنة، وتحديدًا لحظات الاعتدال الربيعي والخريفي. عند شروق الشمس في تلك الأيام، يظهر ظلّ يشبه الأفعى على الدرجات الشمالية، في تجسيد أسطوري لهبوط الإله من السماء إلى الأرض.

واجهات الهرم كانت مزيّنة بألوان زاهية ورسومات ترمز إلى الآلهة والزراعة، ما يشير إلى احتفاء المايا بالفصول وتقديسهم للخصوبة.

اكتشف العلماء مؤخرًا بُنى داخلية خفية داخل الهرم، منها هرم داخلي أصغر يعود لفترة سابقة، وممرات حجرية تؤدي إلى كهف مائي مقدس تحت الهرم. أظهرت المسوحات أن قاعدته تقوم على سقف حجري هش فوق هذا الكهف، ما استدعى حلولًا ذكية لتوزيع الوزن وتفادي الانهيار.

كُشف أيضًا عن نفق خفي قد يرمز إلى رحلة الإنسان من السماء إلى باطن الأرض، في تصور كوني يجمع العوالم العليا والدنيا. هذه العناصر تبيّن كيف أن الهرم لم يكن فقط معلمًا معماريًا، بل بوابة رمزية للكون كله.

البُعد الديني والاجتماعي للهرم

الهرم كان مركزًا للطقوس الكبرى، خصوصًا في لحظات الاعتدال، حيث تقام الاحتفالات وتُقدّم القرابين، من ذهب و العظام، إرضاءً للعناصر الأربعة.

اعتُبر الهرم مركزًا كونيًا يربط بين السماء والأرض والعالم السفلي، وقد اعتقد المايا أن جذور الشجرة المقدسة تمر تحته، لتربط بين عالم الأجداد والآلهة.

في سياق اجتماعي، كان الهرم مقرًا لقرارات النخبة، ومكانًا لتبادل الهدايا وإعلان السياسات، ما جعله أيضًا مركزًا اقتصاديًا وسياسيًا إلى جانب كونه دينيًا.

علاقة الأزتك بالهرم

رغم أن الأزتك لم يبنوه، فقد قاموا بالحج إليه، معتبرين زيارته وسيلة لاكتساب الشرعية الدينية والسياسية. رأوا فيه تجسيدًا لوحدة آلهتهم مع آلهة المايا، واستخدموه لإقامة طقوس مماثلة ومبادلات تجارية مع تشيتشن إيتزا، ما ساهم في تعزيز الروابط الحضارية بين الشعبين.

الاكتشافات الحديثة وإعادة النظر في تاريخ تشيتشن إيتزا

بفضل تقنيات المسح الحديثة، اكتُشفت طبقات داخلية وأهرام خفية وكهوف وممرات تحت الأرض، منها مذبح قديم وكرسي ملكي مصنوع من الذهب، مما يشير إلى طقوس تضحية ملوكية.

أظهرت المسوحات الجيولوجية كهفًا مائيًا عميقًا مغلقًا تحت الهرم، تحيط به جدران شاهقة. وُجدت ممرات ضيّقة أُغلقت عمدًا، ربما لحماية المياه المقدسة التي تمثل بوابة للعالم السفلي.

كذلك، بُني الهرم على شبكة معقدة من الكهوف التي وفرت التهوية ونقلت المياه عبر أنابيب حجرية دقيقة، في تكامل مدهش بين الروحانية والهندسة.

كل هذه الاكتشافات أعادت تشكيل الفهم السائد لتشيتشن إيتزا، وأثبتت أن ما نراه فوق الأرض هو مجرد جزء صغير من مدينة خفية عميقة ومعقّدة، تتجاوز ما تخيّله العلماء سابقًا.

المراجع:

1. Mexican experts detect subterranean river under main Kukulkan pyramid at Chichen Itza ruins | Fox News 

2. Chichen Itza: New Archaeological Finds | MyQuest Concierge 

3. Scientists have found a second pyramid hidden within the Pyramid of Chichen Itza | The Ancient Code 4444444

4. At Mexico's Chichen Itza site, researchers discover Mayan scoreboard | Gulf News 

5. At Mexico’s Chichen Itza site, researchers discover ancient ‘elite’ residences | Malay Mail 

6. طالب دكتوراه يعثر بالصدفة على مدينة مفقودة في غابة بالمكسيك



Next
Next

الطبيب الذي أودع مصحة عقلية لأنه أخترع غسل اليدين !