بابل: المدينة الخالدة / اكتشافات جديدة تعيد كتابة تاريخ الإمبراطورية البابلية

بابل: المدينة التي صنعت الذاكرة الأولى للبشرية

لم تكن بابل مجرد مدينة في التاريخ، بل كانت رمزًا للسلطة، المعرفة، الروحانيات، الأسطورة، اللغة، الدين، والعلم.

ومن بين كل مدن العالم القديم، نادرًا ما نجد مدينة تركت مثل هذا الأثر في المخيلة الإنسانية مثل بابل, من الكتب المقدسة إلى الأساطير الإغريقية، و من أخبار المؤرخين القدماء إلى الاكتشافات الحديثة.

ومع ذلك، فإن القسم الأكبر مما نعتقد أننا نعرفه عن بابل… هو خليط بين الخيال و المبالغة و العداء السياسي والديني في مصادر لاحقة.

بابل قبل نبوخذنصر: مدينة أقدم مما يظن العالم

غالبًا ما يبدأ الناس تاريخ بابل مع نبوخذنصر الثاني، لكن الحقيقة أن جذور المدينة تمتد إلى

الألف الثالثة قبل الميلاد، أي قبل أكثر من 4300 عام. حيث كان اسمها في الكتابات الأكادية باب-إيلاني أي “بوابة الإله”.

لكن هناك اكتشافات حديثة تشير إلى أن الاسم قد لا يكون يترجم حرفيًا ل“بوابة الإله” كما شاع لاحقًا، بل أنه كان جزءًا من نظام أسماء طقسية تتعلق بحدود المعابد المقدسة أو بإسم إله آكادي قديم ضاع ذكره مع الزمن.

رغم أن البابلين لم يخترعوا الكتابة… لكنهم طوروها و أستغلوها في تدوين حضارتهم. فقد ورث البابليون الكتابة المسمارية من السومريين

: و لكنهم طوّروا نظامًا لغويًا أكثر مرونة، وسجلوا به:

القوانين (كقانون حمورابي)-

المراسلات الدبلوماسية-

الملاحم والأساطير-

العقود الاقتصادية-

الحسابات الفلكية-

عقود الزواج -

المحاصيل- 

و حتى خطط بناء للمدينة -

حمورابي و بناء أول دولة قانون

حوالي 1792 ق.م صعد حمورابي كحاكم قوي و وحّد بلاد الرافدين، مؤسسًا أول نظام إداري معقد في التاريخ. القانون لم يكن كما ندرسه اليوم في الكتب المدرسية فأحياناً قد نرى اليوم لوحة طينية لقانون حمورابي ونظنها مجرد نص قانوني بسيط.

لكن الاكتشافات الأثرية الجديدة أظهرت أن القوانين كانت جزءًا من نظام قضائي مرن، حيث كان القضاة يخضعون للمحاسبة و أين كانت توجد محاكم محلية ومراكز أرشيف، بينما القانون لم يكن جامدًا بل قابلًا للتعديل حسب الحالة

> هذا النموذج سبق القانون الروماني بأكثر من ألف عام.

مملكة نبوخذنصر: الإمبراطورية الذهبية

بلغت بابل ذروتها في القرن السادس ق.م.

في عهد نبوخذنصر الثاني، حيث أصبحت المدينة أعظم عاصمة في العالم القديم، مركزاً للإمبراطورية البابلية الجديدة. 

و هي مذكورة في وصف هيرودوت لأسوار بابل بأنها تصل إلى 90 مترًا، رقم قد يبدو غير واقعي

لكن الحفريات الحديثة كشفت أنها بالفعل كانت من أعظم مشاريع العمارة الدفاعية في التاريخ. بطول أقرب لل70 متر. حيث كانت تتكون من جدران مزدوجة وثالث خارجي مع خندق مائي واسع، و يتوسط السور بوابة عشتار المهيبة، و شارع الموكب المرصوف

دون أن ننسى الجنائن المعلقة… المعروفة بإسم حدائق بابل المعلقة، فهل هي حقيقة أم أسطورة؟

للأسف لا يوجد أي دليل أثري على وجودها من غير الكتابات، فالدراسات الحديثة تشير إلى أن الجنائن المعلقة ربما:




1. لم تكن في بابل أصلًا بل في نينوى في عهد سنحاريب

2. كانت نظامًا هندسيًا معقدًا لرفع الماء و سقي الحدائق حولها لتبريد الجو.

3. بنيت في مكان موازي للاتامانانكي.





بابل في النصوص الدينية: بين التاريخ والمجاز

الصورة الشائعة عن بابل في التوراة كرمز للخطيئة والشر جاءت من نصوص لاحقة بعد السبي البابلي لليهود، لكن الاكتشافات الحديثة تظهر أن البابليين كانوا مجتمعًا دينيًا متسامحًا مع الديانات الأخرى

حتى اليهود في المنفى البابلي عاشوا بأمان و أسسوا مدارس دينية، احتفظوا بهويتهم و كتبوا جزءًا من تراثهم التفسيري هناك، بل و تأثرو بشدة بالبابليين ناقلين عنهم قصص كالانوما ايليش.

فالمنفى البابلي كان أكثر تعقيدًا مما تُصوره الروايات الشائعة، و لم يكن إستعباداً بلا رحمة.

علم الفلك البابلي: ذكاء سابق لعصره

كشفت الألواح المسمارية عن حسابات دقيقة لحركة الكواكب و اكتشاف الدورات الفلكية المتكررة باستخدام الرياضيات لصناعة تقاويم زراعية دقيقة، حيث تم تأسيس أقدم جداول حسابية متقدمة في التاريخ، ومؤخرًا اكتُشف لوح فلكي يحدد حركة المشتري بدقة،

أعاد العلماء تحليله في 2016 واكتشفوا أنه يستخدم هندسة رياضية تشبه حساب المساحات

قبل الإغريق بألف سنة!

اكتشافات أثرية حديثة ومنسية

لوح الطوفان في متحف بريطانيا

يحكي نسخة بابليّة أقدم من رواية الطوفان التوراتية، بل يصف سفينة دائرية الشكل!

أقدم ذكر للعدالة الاجتماعية, لوح شهير لملك بابلي يعلن “مظاهرة للعدل ومنع المظالم على الضعيف” ألواح السحر الطبي اكتشاف نصوص تجمع بين الطب والتعاويذ، كمرحلة تطور مبكر للفكر العلمي.

خاتمة

بابل ليست مدينة “تعاقبتها النصوص” ولا مجرد أسطورة عن الحدائق المعلقة. إنها عقل بشري يتعلم ويتجارب ويخطئ ويبدع. الأكاديميون اليوم يعيدون قراءة تاريخها بعيدًا عن الأساطير الدينية والخيال الإغريقي، فيتضح لنا أن العالم الحديث مدين لبابل أكثر مما نظن، من القانون إلى الهندسة، الفلك، الإدارة، الأدب و الذاكرة الحضارية نفسها

بابل ليست مدينة سقطت… بل فكرة تعيش إلى اليوم في قلب كل حضارة.

المصادر و المراجع 

1. “The Neo-Babylonian Empire: The Imperial Periphery as Seen from Babylon”

Link: https://www.degruyterbrill.com/document/doi/10.1515/janeh-2019-0003/html?lang=en&srsltid=AfmBOoqm6FylDx1sLJ7Qnmv06_4WRvYwpz3e-pPtxzJQC8hTu9Bh_LyU (De Gruyter) 

2. “On the evidence of a trigonometric function value system in Babylon”

https://arxiv.org/abs/2112.13379 (arXiv pre-print) 

3. “Reconstructing Ancient Babylon: Myth and Reality”

https://www.researchgate.net/publication/360901077_Reconstructing_Ancient_Babylon_Myth_and_Reality (ResearchGate) 

4. “Babylonian Scholarship and the Calendar during the Reign of Xerxes”

https://www.researchgate.net/publication/330702616_Babylonian_Scholarship_and_the_Calendar_during_the_reign_of_Xerxes (ResearchGate) 

5. “Babylon, the most famous city from ancient Mesopotamia” (summary article)

https://www.worldhistory.org/babylon/ (World History Encyclopedia) 








Next
Next

مرض دماء جروح المسيح | رحلة إلى أغرب أسرار الكنيسة الكاثوليكية