مرض دماء جروح المسيح | رحلة إلى أغرب أسرار الكنيسة الكاثوليكية
دماء تنزف من اليدين والقدمين… قديسون يزعمون أنهم يشاركون المسيح آلامه… لكن هل الوصمة معجزة سماوية فعلًا؟ أم واحدة من أعظم الخدع الدينية في التاريخ؟ اقرأ القصة الكاملة على: bchistory.net
من فرنسيس الأسيزي إلى كاثرين من سيينا و بادري بيو، ظاهرة الوصمة أو مرض دماء المسيح حيّرت العالم لقرون. هل هي مشاركة حقيقية في آلام المسيح، أم خدعة نفسية وجسدية دعمتها الكنيسة؟ اكتشف القصة الكاملة
الأخت البلجيكية رومولدا [هولندا] على فراش موتها مع وصمات جراحها (1948)
من بين جميع الظواهر الغامضة في تاريخ المسيحية، لا شيء يثير الدهشة والرعب مثل الوصمة أو مرض دماء المسيح. تلك العلامات الدموية التي تظهر فجأة على أجساد بعض القديسين المسيحيين، مطابقة تمامًا لآثار الصلب: جروح في اليدين والقدمين، طعنة في الجنب، أحيانًا أثار تاج من الشوك وضع على الرأس، وأحيانًا آثار جلدٍ على الظهر كما لو أنهم عُذبوا بالسياط. هل هي معجزة إلهية؟ أم خداع متعمد؟ أم مجرد انعكاس نفسي لجراح روحية عميقة؟
ولادة الظاهرة
يرجع أول تسجيل واضح للوصمة إلى سنة 1224م، عندما انسحب فرنسيس الأسيزي إلى جبل لافيرنا للتأمل والصلاة. هناك، حسب روايات تلاميذه، رأى رؤية غامرة للمسيح مصلوبًا، وفجأة ظهرت على جسده الجروح ذاتها. عاش فرنسيس سنتين بعد تلك الحادثة وهو يعاني من النزيف والألم، حتى وفاته. اعتبر أتباعه الأمر علامة على قداسته، بينما وقف آخرون حائرين: هل يمكن للجسد أن يعكس آلام المسيح بهذه الصورة؟
القديس فرنسيس الأسيزي يتأمل جروح الوصمات كجزء من تقليد المسيح
انتشار الوصمة عبر أوروبا بعد فرنسيس الأسيزي
لم تتوقف القصص. في القرون الوسطى، أصبحت أخبار الرهبان والراهبات الذين تظهر عليهم الوصمة تتكرر في إيطاليا، فرنسا، ألمانيا، وإسبانيا. بعض الحالات كانت علنية أمام مئات الشهود، وبعضها بقي سرًا في الأديرة من أشهرها :
كاترينا من سيينا (1347 – 1380)
واحدة من أكثر الحالات شهرة. قيل إن يديها وقدميها نزفت مرارًا، لكنها طلبت من الله أن تختفي العلامات الخارجية ليبقى الألم وحده. وعندما ماتت، قيل إن الجروح عادت للظهور على جسدها كبرهان، طبعا هي كان لديها تابعون مجانين قامو حتى بتهريب جسدها من روما لمدينة سيينا لحفظه كأثر و تحنيطه، لكن كان لديها كارهون أكبر، خصوصا بعدما إدعت أن المسيح ظهر لها و طلب منها الزواج عبر وضع جلدة الختان الخاصة به على إصبعها.
القديسة كاترين تغمى عليها من وصمة، كنيسة القديس بانتاليون، الألزاس، فرنسا
مارغريت ماري ألاكوك (القرن السابع عشر)
ولدت مارغريت ماري سنة 1247 في فرنسا، وعاشت طفولة مليئة بالمرض والوحدة. منذ صغرها كانت تميل للتأمل والصلاة بشكل مبالغ فيه، حتى أن أسرتها رأت فيها “طفلة غريبة” تعيش في عالمها الروحي الخاص. عندما أصبحت راهبة، بدأت ترى رؤى متكررة للمسيح. واحدة من أشهر هذه الرؤى كانت عام 1675، حين ادعت أن المسيح أراها قلبه و هو يشتعل بالنار، يحيط به إكليل من الشوك وينزف دمًا. هذه الرؤية أسست لاحقًا لمذهب عبادة “القلب الأقدس” التي انتشرت في الكنيسة الكاثوليكية و مزالت حتى اليوم. لكن الأكثر غرابة أن جسدها نفسه بدأ يعكس هذه الصور. تقارير من ديرها تقول إنها عانت من آلام حادة في الصدر واليدين، وأحيانًا كان يظهر نزيف حقيقي. البعض قال إنها تخيلت الأمر، لكن تلميذاتها أقسمن أنهن رأين الدم بأعينهن. المثير أن الكنيسة لم تتقبلها فورًا. اتُهمت بالهستيريا وبالمبالغة، بل وحتى بالخداع. لكن بعد وفاتها، ومع انتشار عبادة القلب الأقدس، أُعيد النظر في قصتها وأُعلنت كقديسة عام 1920. اليوم، يُعتبر قبرها مزارًا للحجاج، وما زال الناس يربطونها بفكرة الجسد الذي يتألم كما لو كان قلب المسيح نفسه ينبض فيه.
قلب يسوع الأقدس، لوحة برتغالية من القرن التاسع عشر
بادري بيو (1887 – 1968)
قصة بادري بيو هي الأغرب على الإطلاق في تاريخ الوصمة الحديث أو الستيغما. اسمه الحقيقي فرانشيسكو فورجيوني، ولد عام 1887 في جنوب إيطاليا، وانضم مبكرًا إلى الرهبنة الكبوشية. في عام 1918، أثناء صلاته في ديره، ظهر على يديه وقدميه وجنبه نزيف غزير. لم يكن نزيفًا عابرًا، بل استمر معه طوال خمسين سنة تقريبًا، حتى وفاته عام 1968. ما الذي جعل قصته استثنائية؟ 1. الدم المستمر: جروحه لم تلتئم قط، وكانت تنزف بشكل منتظم. بعض التقديرات تقول إنه فقد عشرات اللترات من الدم عبر حياته. 2. رائحة غريبة: شهود كثيرون قالوا إن الدم المنبعث من جروحه لم تكن له رائحة عادية، بل كان يشبه رائحة الزهور. 3. الخوارق المرافقة: ربط الناس به ظواهر أخرى مثل القدرة على قراءة الأفكار، الظهور في أكثر من مكان (ظاهرة “التواجد المزدوج”)، وحتى شفاء المرضى.
موقف الكنيسة منه
الكنيسة في البداية لم تتقبل الأمر بسهولة. جرى التحقيق معه مرارًا، وأحيانًا مُنع من ممارسة الشعائر علنًا بسبب الجدل. بعض الأطباء الذين فحصوا جروحه أكدوا أنها لا تشبه أي إصابة طبيعية، بينما أكد أطباء آخرون أنها نتيجة مواد كيميائية حيث أن الجروح لم تكن عميقة كما ادعى بل كانت كحروق بالحمض، و كانت عليها أثار إستخدام زيوت عطرية. لكن شعبيته بين الناس كانت هائلة. الآلاف كانوا يتدفقون إلى ديره ليروا "الكاهن النازف"، وادعى كثيرون أنهم حصلوا على بركاته أو شفوا من أمراض مستعصية بسببه. بعد وفاته، استمرت عبادة شخصيته حتى أعلن الفاتيكان قداسته رسميًا عام 2002، وسط نقاشات ما زالت مستمرة حتى اليوم: هل كان معجزة حية، أم أستاذًا بارعًا في الإيحاء والخداع؟
الأب بيو الشاب يظهر الوصمات
موقف الكنيسة
لم يكن موقف الكنيسة الكاثوليكية موحدًا. ففي بعض الأحيان، اعتُبرت الوصمة علامة قداسة، دليلًا على الاتحاد العميق بالمسيح. أصحابها رُفعوا إلى مرتبة الطوباويين أو القديسين. لكن في أحيان أخرى، تعاملت الكنيسة بحذر شديد، إذ خشيت أن تكون مجرد خداع أو هستيريا جماعية. بعض الحالات خضعت لتحقيقات صارمة من محاكم التفتيش. وهناك تقارير عن راهبات و"قديسين مزعومين" حُكم عليهم بالزيف، بل وأُدين بعضهم بممارسة السحر و تم حرقهم على الخشبة.
التفسيرات المحتملة
التفسير الديني حسب الكنيسة : الوصمة علامة من الرب المسيحي يسوع. إنها مشاركة حقيقية في آلام المسيح، وتمنح المؤمن شهادة قداسة لا يمكن إنكارها. هذا التفسير هو ما تبنته الجماعات المؤمنة حول الحالات الأشهر مثل فرنسيس الأسيزي وبادري بيو.
التفسير الطبي والنفسي بعض الأطباء النفسيين تحدثوا عن "الاضطراب الجسدي النفسي"، حيث يمكن للعقل تحت ضغط شديد أن يؤثر على الجسد مسببًا نزيفًا أو جروحًا سطحية. نظريات أخرى تحدثت عن الهستيريا التحولية، خاصة عند الراهبات اللواتي يعشن حياة زهد قاسية مع عزلة روحية و المستعدين لتصديق أي شيئ من اجل الدين، و أغلب الجروح المزعومة من الحالات الحديثة من الواضح أنها حروق كميائية من الحمض و الأسيد، و ليست عميقة و الا لكانت إلتهبت بالبكتيريا و العفن. كثير من الباحثين و المسيحيين السابقين رأوا أن الظاهرة لا تخرج عن كونها خداعًا مقصودًا. بعض الحالات كانت حتى تضع البارود على الجلد و حرقه لخلق الجروح. وهناك اتهامات بأن بعض "القديسين" فعلوا ذلك لكسب الاحترام أو النفوذ داخل مجتمعاتهم الدينية.
الجدل المستمر
الغريب أن الظاهرة لم تختفِ مع العصور الوسطى. حتى في القرن العشرين والحادي والعشرين، ظهرت حالات متفرقة في أوروبا وأمريكا الجنوبية. الفاتيكان غالبًا ما يتعامل مع هذه التقارير بسرية، يرسل لجانًا طبية لفحص الأجساد، وفي معظم الأحيان يظل الحكم غامضًا. مهما كان التفسير، فإن الوصمة تحمل بعدًا رمزيًا قويًا: إنها تجسيد مادي لفكرة "المشاركة في آلام المسيح". إنها حدود غامضة بين الإيمان و الجنون، بين المعجزة و الوهم، بين الجسد البشري و السر الإلهي.
الوصمة ليست مجرد جروح على جسد، بل مرآة تكشف عن علاقة معقدة بين الإنسان و المقدس. سواء كانت عملًا إلهيًا أو خداعًا بشريًا، فإنها تظل من أكثر الظواهر إثارة للرعب والفضول في تاريخ الكنيسة. في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل هذه الجروح دماء من السماء، أم مجرد خداع من لحم و دم؟
المصادر و المراجع
1. Michael P. Carroll – Stigmata and Modernity: Miracles in a Secular Age https://www.amazon.com/Stigmata-Modernity-Miracles-Secular-Age/dp/0415296813
2. Ruth Harris – Lourdes: Body and Spirit in the Secular Age
https://www.amazon.com/Lourdes-Body-Spirit-Secular-Age/dp/0140249120
3. Ted Harrison – Stigmata: A Medieval Phenomenon in a Modern Age
https://www.amazon.com/Stigmata-Medieval-Phenomenon-Modern-Age/dp/1850752960
4. Herbert Thurston – The Physical Phenomena of Mysticism https://archive.org/details/physicalphenomen00thuruoft
5. Donald Weinstein & Rudolph Bell – Saints and Society: The Two Worlds of Western Christendom, 1000–1700 https://www.amazon.com/Saints-Society-Christendom-1000-1700/dp/0226890559
6. Caroline Walker Bynum – Holy Feast and Holy Fast: The Religious Significance of Food to Medieval Women https://www.ucpress.edu/book/9780520063297/holy-feast-and-holy-fast
7. Catholic Encyclopedia – “Stigmata” (New Advent)
مكتبة الفاتيكان: قلب المعرفة و السلطة السري
مكتبة الفاتيكان: أعمق أسرار الكنيسة وأندر كنوز المعرفة في العالم
هل تعلم أن مكتبة الفاتيكان تضم أكثر من مليون كتاب ومخطوطة نادرة لا يراها أحد؟ اكتشف القصة الكاملة للمكتبة الأكثر غموضًا في العالم، من تأسيسها قبل قرون، إلى أسرار أرشيفها السري، وتأثيرها الثقافي والسياسي، في مقال شامل لا مثيل له.
#مكتبة_الفاتيكان #أسرار_الفاتيكان #تاريخ_الكنيسة #الكنيسة_الكاثوليكية #الكتب_النادرة #المخطوطات_القديمة #تاريخ_العالم #أرشيف_الفاتيكان #الغموض_الديني #الكنوز_المخفية #المسيحية_والعلم
عالم مخفي داخل الكرسي الرسولي
خلف جدران الفاتيكان السميكة، المغلفة بالغموض والقدسية، تقع واحدة من أعظم خزائن المعرفة في تاريخ البشرية: مكتبة الفاتيكان الرسولية. تُعرف ببساطة باسم مكتبة الفاتيكان، لكنها أكثر من مجرد مجموعة من الكتب، إنها أرشيف حي للتطور الفكري والديني والعلمي والثقافي للعالم. تضم أكثر من 1100000 كتاب مطبوع، و 75000 مخطوطة، وأكثر من 8000 من الكتب النادرة التي طُبعت قبل سنة 1501، بالإضافة إلى خرائط وعملات معدنية ونقوش وصور فوتوغرافية. تم تأسيسها رسميًا سنة 1475، لكن جذورها تعود إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث بقيت شاهدة صامتة على الثورات والإصلاحات وعصور النهضة والاضطرابات الدينية. ومع ذلك، غالبًا ما يتم التغاضي عن تأثيرها. ما هي الأسرار التي تحتويها؟ وما المعرفة القديمة التي لم تُرَ بعد؟ ولماذا يعتبرها كثيرون واحدة من أكثر المؤسسات غموضًا على وجه الأرض؟
أصول مكتبة الفاتيكان: قبل البداية
رغم أن البابا سيكستوس الرابع يُنسب إليه تأسيس المكتبة في سنة 1475، إلا أن جمع النصوص في الفاتيكان بدأ قبل ذلك بعدة قرون. يمكن تتبع الجذور إلى أوائل العصر المسيحي، حيث تشير السجلات إلى وجود أرشيف مبكر يُدعى "سكريينيوم" في القرن الرابع في عهد البابا داماسوس الأول. كان هذا الأرشيف مركزًا للوثائق الكنسية والنصوص العقائدية. لكن التحول الحقيقي بدأ في القرن الخامس عشر مع باباوات عصر النهضة، الذين سعوا لجمع أعظم الأعمال الفكرية في العالم لتدعيم سلطتهم. البابا نيقولا الخامس، بشكل خاص، حلم بمكتبة عظيمة تفوق مكتبة الإسكندرية القديمة و بدأ في اقتناء النصوص الكلاسيكية من أوروبا والشرق الأوسط، بما في ذلك المؤلفات اللاتينية والفلسفة اليونانية والمخطوطات العلمية بالعربية. وبحلول الوقت الذي أسس فيه البابا سيكستوس الرابع المكتبة بشكل رسمي، كانت قد أصبحت منارة للفكر الإنساني.
العمارة والتصميم: قلعة المعرفة
مكتبة الفاتيكان ليست قاعة واحدة، بل مجمع واسع من القاعات والغرف والممرات السرية والمخازن تحت الأرض المزودة بأنظمة تحكم في الحرارة. قلب المكتبة هو القاعة المعروفة باسم "قاعة سيكستوس"، وهي قاعة ضخمة تم إنشاؤها في أواخر القرن السادس عشر. سقفها المقبب مغطى بلوحات جدارية مذهلة تصور أحداثًا شهيرة في تاريخ الكنيسة ورموزًا للحكمة والمعرفة. فخامة القاعة تعكس قدسية المعرفة المخزنة بداخلها، وكذلك السلطة السياسية للكنيسة. خارج هذه القاعة، تحتوي المكتبة على شبكة ضخمة من غرف القراءة، وخزائن المخطوطات، ومناطق البحث، وأقسام مغلقة لا يمكن الوصول إليها إلا بإذن خاص. المخازن الموجودة تحت الأرض محصنة ضد الحرائق والزلازل وغيرها من الكوارث. الأمن فيها بالغ الصرامة، ليس فقط لحماية الكنوز الثمينة، ولكن أيضًا للحفاظ على السرية الصارمة لبعض المحتويات.
مجموعة المخطوطات: كنوز لا تقدر بثمن
من بين أعظم كنوز مكتبة الفاتيكان، تبرز مخطوطاتها التي يبلغ عددها أكثر من 75000 وثيقة مكتوبة بخط اليد تعود إلى العصور القديمة وحتى العصر الحديث. تشمل هذه المخطوطات نصوصًا مزخرفة من العصور الوسطى، وأعمالًا يونانية ورومانية قديمة، وكتابات مسيحية مبكرة، ورسائل ملوك وقديسين وفلاسفة. من أبرز هذه المخطوطات نسخة قديمة جدًا من الكتاب المقدس باللغة اليونانية تعود للقرن الرابع، ومخطوطة شعرية رومانية تعود للقرن الخامس، ورسائل من العلماء والفنانين. بعضها مُغلف بأغلفة من الذهب والفضة والعاج ومزينة بالأحجار الكريمة. كما تضم المكتبة لفائف عبرية قديمة ومخطوطات عربية تثبت تواصل الكنيسة التاريخي مع اليهودية والإسلام. الحفاظ على هذه الأعمال ليس مجرد عملية أرشفة، بل هو إعلان ضمني عن دور الكنيسة كحامية للحضارة الإنسانية، من بين هذه المخطوطات محاكمة غاليلو غاليلي و محاكمة فرسان المعبد من الملك الفرنسي فيليب الرابع.
الأرشيفات السرية ونظريات المؤامرة: ما الذي يُخفى؟
لا يمكن الحديث عن مكتبة الفاتيكان دون التطرق إلى عالم الأسرار ونظريات المؤامرة. هناك مؤسسة أخرى تُعرف باسم الأرشيف الرسولي للفاتيكان، وهي منفصلة عن المكتبة ولكن كثيرًا ما يتم الخلط بينهما. يحتفظ هذا الأرشيف بوثائق تتعلق بإدارة الكنيسة ونشاطات الباباوات. ورغم أن بعض أجزاء الأرشيف فُتحت أمام الباحثين في القرن التاسع عشر، فإن أجزاء كثيرة منه لا تزال محجوبة عن العامة. هنا تبدأ الشائعات: هل يُخفي الفاتيكان نصوصًا مسيحية محرّفة؟ أناجيل اعتُبرت هرطقة؟ أو معارف ضائعة من حضارات منقرضة؟ ورغم أن هذه الفرضيات تظل في نطاق الخيال أو المبالغات، إلا أنه لا شك في أن الأرشيف يحتوي على وثائق ذات حساسية سياسية ودينية وتاريخية بالغة، مثل سجلات محاكمات العلماء، والمراسلات الملكية، ووثائق محاكم التفتيش. ويتم تبرير هذا الكتمان غالبًا بضرورة حماية المواد، لكن الغموض الذي يلف الأرشيف يواصل تغذية فضول الناس.
الرقمنة والمستقبل: هل تُفتح الأبواب؟
في العقود الأخيرة، اتخذت مكتبة الفاتيكان خطوات نحو الشفافية وإتاحة المعرفة. تم إطلاق مشروعات ضخمة لرقمنة المخطوطات بهدف حفظها ومشاركتها مع العالم. وبمساعدة تعاونات دولية وتقنيات حديثة، تم مسح آلاف المخطوطات ضوئيًا بجودة عالية ونشرها عبر الإنترنت. الهدف هو رقمنة جميع المخطوطات، وهي مهمة قد تستغرق عقودًا. ومع ذلك، أثار هذا الانفتاح تساؤلات: لماذا تُرقمن بعض المواد دون غيرها؟ وما المعايير التي تُحدد بها هذه الأولويات؟ رغم هذا الانفتاح الجزئي، لا تزال الكنيسة تحتفظ بالتحكم الكامل فيما يُعرض وما يُحجب. يمكن للباحثين من جميع أنحاء العالم التقدم بطلب للحصول على إذن للدراسة في غرف القراءة، لكن إجراءات الموافقة دقيقة ومعقدة. ومع ذلك، سمح هذا الانفتاح الجزئي باكتشافات علمية مهمة حول نصوص قديمة ومؤلفين منسيين ولغات ميتة.
التأثير الثقافي والسياسي: المكتبة كأداة للسلطة
على مدار تاريخها، لم تكن مكتبة الفاتيكان مجرد مؤسسة علمية، بل كانت أيضًا أداة دبلوماسية وأيديولوجية ذات تأثير واسع. المعرفة التي تحتفظ بها استُخدمت في كثير من الأحيان لتشكيل العقيدة وتثبيت السلطة أو مواجهة الأفكار المضادة. خلال مرحلة الإصلاح المضاد، لعبت الوثائق التاريخية دورًا مهمًا في الدفاع عن عقائد الكنيسة في وجه المصلحين البروتستانت. بامتلاك النصوص الأصلية للآباء المؤسسين والمجامع الكنسية، تمكن الفاتيكان من إثبات استمرارية العقيدة. كذلك، استُخدمت المكتبة في السياقات الدبلوماسية، إذ يمكن تقديم نسخ نادرة أو السماح بالاطلاع على مخطوطات خاصة كهدايا رمزية للضيوف الأجانب. في العصر الحديث، ساعد انفتاح المكتبة الجزئي على الحفاظ على مكانتها الثقافية العالمية، حتى خارج المجال الديني.
مكتبة الفاتيكان في الخيال والثقافة الشعبية
من الروايات إلى الأفلام إلى ألعاب الفيديو، أثارت مكتبة الفاتيكان خيال الجمهور. ظهرت في روايات مشهورة كأنها متاهة مليئة بالممرات السرية والمعرفة المحرمة. ورغم أن هذه التصورات غالبًا ما تكون مبالغًا فيها، إلا أنها تعكس إدراكًا ثقافيًا حقيقيًا للمكتبة كمكان للغموض والهيبة. ويزيد هذا الإحساس الغامض بسبب عمارتها الكلاسيكية ونظام تصنيفها الغامض وصعوبة الوصول إليها. في ألعاب الفيديو، يصور اللاعبون مكتبة الفاتيكان كبيئة مليئة بالألغاز والفخاخ. ورغم أن الواقع أكثر هدوءًا وتعقيدًا، فإن المكتبة بالفعل تجمع بين النصوص الدينية والعلمية، والمخطوطات المزخرفة واللغات المنقرضة، في مكان واحد، يجعلها فريدة من نوعها.
الخاتمة: أرشيف مقدس للإنسانية
تقف مكتبة الفاتيكان عند تقاطع الإيمان والعقل، السرية والعلم، الماضي والمستقبل. إنها واحدة من آخر المؤسسات التي تحمل على عاتقها ذاكرة البشرية ليس عبر الرموز فقط، بل عبر الحفظ المادي لما تركته الحضارات. سواء اعتبرها الناس قلعة للمعرفة، أو حارسة للأسرار، أو رمزًا للهيمنة الثقافية، تبقى مكتبة الفاتيكان من أهم مؤسسات العالم. في زمن أصبحت فيه المعلومات رقمية وسريعة الزوال، تذكرنا هذه المكتبة بقيمة الحفظ، وأهمية إحياء الماضي صفحة بعد صفحة.
وربما، في يوم من الأيام، نكتشف أن بعض أسرارها لم تكن لتُنسى، بل كانت تنتظر أن يجدها البشر عندما يصبحون مستعدين.
Nova Historia
أول مجلة عربية فريدة من نوعها تجمع بين التاريخ، الفن، والقصص الغامضة من أعماق الحضارات
المصادر
1. The Vatican Apostolic Library – Official Website
2. Vatican Library | Encyclopædia Britannica
https://www.britannica.com/topic/Vatican-Library
3. Digitized Manuscripts – DigiVatLib (Vatican Library's Digital Archive)
4. The Vatican Secret Archives: Unlocking History’s Vault – National Geographic
5. The Mysterious Vatican Library and Its Secrets – Ancient Origins
https://www.ancient-origins.net/history-famous-people/vatican-library-0011015
6. The Vatican Library’s Digitization Project – The Guardian
https://www.theguardian.com/books/2014/mar/20/vatican-library-digitise-ancient-manuscripts
7. Secrets of the Vatican Library – BBC Culture
https://www.bbc.com/culture/article/20210205-secrets-of-the-vatican-library
8. Inside the Vatican's Secret Archives – History.com
https://www.history.com/news/vatican-secret-archives-facts