العراق: ملحمة التاريخ منذ فجر البشرية و حتى اليوم مهد الحضارات، وطن الأساطير, و أرض الدم والذهب
من أول حرف كُتب في سومر، إلى آخر صاروخ سقط في بغداد، العراق هو كتاب مفتوح من المجد والدم.
اكتشف القصة الكاملة لأرض الأنبياء والملوك، الحضارات والأساطير، من فجر الإنسان إلى زمن الفوضى.
إذا أردت أن تتحدث عن تاريخ البشرية، فلا يمكنك تجاهل العراق. فهذه الأرض، الممتدة بين نهري دجلة والفرات، لم تكن مجرد ساحة لحضارات عظيمة، بل كانت مسرحًا لولادة الكتابة، القانون، أول دولة منظمة، العلم و حتى العجلة...
كما كانت، و ما زالت، أرضًا للدماء، الانبعاث، و الدمار, فلنغص في أعماق الزمن لنروي حكاية العراق، البلد الذي غيّر مجرى التاريخ أكثر من مرة
برلين، متحف بيرغامون. بويرتا دي عشتار.
ما قبل التاريخ: بداية الحياة
قبل أكثر من عشرة آلاف عام، بدأت أولى التجمعات البشرية في سهول العراق، حيث المناخ المعتدل ووفرة المياه. هذه المنطقة الجميلة لم تكن صحراء بالغالب كما اليوم، بل كانت جد مخضرة و معتدلة المناخ، و لهذا سكن الإنسان كهوف و سهول الهلال الخصيب لقرون قبل ظهور الحضارة، وبدأ تدريجيًا بالتحول من الصيد إلى الزراعة، مما أدى إلى ظهور القرى الأولى مثل "جرمو" و"تل الصوان"، بل و أن أول مدينة في التاريخ جريكو في فلسطين اليوم، ظهرت بسبب هذه الموجة من المستوطنين للهلال الخصيب.
و بالعراق ظهرت أولى الأدوات الزراعية، و تم تدجين الحيوانات كالدجاج و البقر لأول مرة، وبدأ الإنسان في تنظيم مجتمعه على أسس شبه حضارية.
داخل كهف شانيدار حيث تم العثور على بقايا ثمانية بالغين وطفلين من إنسان نياندرتال، يعود تاريخها إلى ما بين 65000 إلى 35000 سنة مضت.
الحضارة السومرية: اختراع العالم
في حوالي 3500 قبل الميلاد، وُلدت ثقافة سومر في جنوب العراق، وهي أول حضارة موثقة في التاريخ.
قد تسأل ما الفرق بين الحضارة و الثقافة ؟ الثقافة هي مجموعة من العادات، التقاليد، الفنون، المعتقدات، و المهارات التي تُميز مجموعة بشرية معينة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، متقدمة أو بدائية. فمثلاً، الشعوب التي رسمت جداريات الطاسيلي ناجر في الصحراء الجزائرية منذ أكثر من 11 آلف سنة، لم تكن "حضارة" بالمعنى المعماري أو السياسي، لكنها كانت "ثقافة" راقية في فنونها، وتعبيرها عن الحياة اليومية، والصيد، والطقوس الروحيةو كان لديهم وعي فني وروحي، لكنهم لم يبنوا مدنًا، ولم يتركوا نظام حكم، أو كتابة، أو مؤسسات.
أما الحضارة في البناء المنظم و الدولة، حيث تشمل وجود مدن ثابتة و نظام حكم، قوانين مكتوبة، نظم اقتصادية وتجارية، مؤسسات دينية أو تعليمية، فن معماري وهندسي واضح، بحيث أن الحضارة تحتاج إلى التنظيم والتراكم المادي، في حين أن الثقافة قد تكون موجودة حتى في التجمعات البسيطة أو البدوية. و هكذا فليست كل ثقافة حضارة، لكن كل حضارة تقوم على ثقافة.
سومر كانت أول حضارة في التاريخ، ففي مدن مثل أور، أريدو، وأوروك، ظهرت أول كتابة (الكتابة المسمارية)، و أول نظام قانوني، و أول ملحمة أدبية (ملحمة جلجامش)، و أول تقسيم للسنة والشهور ( رزنامة )
كانت سومر متقدمة في الفلك، الرياضيات، والعمارة. وقد اخترعوا العجلة، ووضعوا أول تنظيم للحياة الدينية والسياسية.
الأكديون: أول إمبراطورية موحدة
في حوالي 2334 قبل الميلاد، ظهر الملك العظيم سرجون الأكدي، الذي أسس أول إمبراطورية متعددة القوميات و الممالك في التاريخ، وحد سرجون بلاد الرافدين، ونقل العاصمة إلى مدينة "أكّاد"، التي لم يُعثر عليها حتى اليوم، لكنها كانت مركزًا للثقافة والقوة.
عصر الأكديين شهد ازدهار الشعر، الفنون، والتجارة مع الهند ومصر.
رأس برونزي لحاكم أكادي من نينوى، يُفترض أنه يصور إما سرجون الأكدي، أو حفيده نارام سين. كانت الإمبراطورية الأكدية أول إمبراطورية قديمة في بلاد ما بين النهرين بعد حضارة سومر العريقة.
البابليون: عندما وُلد القانون
في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، سيطرت مدينة بابل على المشهد، بقيادة الملك الشهير حمورابي، صاحب أقدم قانون مكتوب في العالم. في بابل، ازدهرت العلوم والفنون، وظهر التقويم القمري، وتم تطوير الرياضيات والفلك إلى مستويات غير مسبوقة.
وقد عُرفت بابل بحدائقها المعلقة، إحدى عجائب الدنيا السبع، والتي تُنسب إلى الملك نبوخذنصر الثاني.
منظر بانورامي للآثار في بابل تم تصويره عام 2005
الآشوريون: سادة الحرب والعمران
في شمال العراق، برزت مدينة آشور، ومن ثم نينوى، كمراكز لإمبراطورية مرعبة وقوية: الآشوريون.
اشتهروا بالتنظيم العسكري القاسي، والآلات الحربية الفتاكة، وبنوا واحدة من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ.
لكنهم لم يكونوا مجرد محاربين، بل بنوا مكتبة نينوى الضخمة، والتي حفظت مئات الألواح الطينية، واهتموا بالفن والنحت و حتى تمكنو من غزو مصر و جنوب الاناضول
نقش بارز من القرن السابع قبل الميلاد يُصوّر آشور بانيبال (حكم من 669 إلى 631 قبل الميلاد) وثلاثة من مرافقيه الملكيين في عربة. كان آشور بانيبال ملك الإمبراطورية الآشورية الحديثة، التي كانت أكبر إمبراطورية في التاريخ حتى ذلك الحين.
الكلدانيون والنهضة الأخيرة لبابل
في القرن السادس قبل الميلاد، عادت بابل لتبهر العالم عبر الكلدانيين، بقيادة الملك نبوخذنصر الثاني، الذي أعاد بناء بابل و الإمبراطورية البابلية الجديدة، و غزا القدس، ونقل سكانها إلى بابل في السبي البابلي الشهير.
لكن مجد بابل انتهى سريعًا بعد أن أسقطها كورش العظيم الفارسي سنة 539 ق.م.
منظر جزئي لأطلال بابل
العراق تحت الحكم الفارسي واليوناني والروماني
بعد سقوط بابل، تعاقب على العراق الحكم الفارسي الأخميني، ثم جاء الإسكندر الأكبر ودخل بابل منتصرًا.
توفي في قصرها سنة 323 ق.م، وهكذا دخل العراق عهد السيطرة اليونانية (السلوقية)، ثم الصراع مع الرومان.
"دخول الإسكندر إلى بابل"، وهي لوحة من رسم تشارلز لوبورن عام 1665، تصور دخول الإسكندر الأكبر إلى مدينة بابل دون منازع، في ظل العمارة الهلنستية الموجودة مسبقًا.
العراق في العهد الساساني: صراع مع بيزنطة وتمهيد للإسلام
في القرون الأخيرة قبل الإسلام، كان العراق مركزًا مهمًا في الدولة الساسانية، وحدثت فيه معارك ضخمة ضد البيزنطيين.
كانت البلاد تعاني من الضرائب والجوع، وكان الناس ينتظرون الخلاص.
الفتح الإسلامي: بداية العصر الذهبي
في سنة 673 م، دخل العرب المسلمون العراق بعد معركة القادسية، وسقطت المدائن، عاصمة الفرس.
أصبح العراق جزءًا من الدولة الإسلامية، ومع العصر العباسي، تحوّل إلى قلب الحضارة العالمية.
الخلافة العباسية: بغداد، مركز الكون
أسس العباسيون عاصمتهم في بغداد سنة 762 م، ومعها بدأت نهضة علمية غير مسبوقة.
في "بيت الحكمة"، تُرجمت الكتب اليونانية والهندية، وازدهر الطب، الفلك، الرياضيات، والآداب.
كان هارون الرشيد والمأمون من أعظم الخلفاء، وعُرفت بغداد بأنها "مدينة السلام".
الغزو المغولي: يوم احترق العالم
في سنة 1258 م، اجتاح هولاكو بغداد، وارتُكبت واحدة من أبشع المجازر في التاريخ.
قُتل مئات الآلاف، وأُحرقت الكتب، وقُضي على الخلافة العباسية.
قالوا إن دجلة تحول إلى لونين: الأحمر من الدماء، والأسود من الحبر!
غزو بغداد على يد المغول عام 1258
العهد العثماني والفارسي: صراع الهيمنة
تنازع الصفويون والعثمانيون على العراق لأكثر من ثلاثة قرون.
خضع العراق للعثمانيين منذ القرن السادس عشر، لكن عانى من الإهمال والتمردات والفقر، حتى سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
١٢. الاحتلال البريطاني والمملكة العراقية
دخل البريطانيون العراق في الحرب العالمية الأولى، وأسسوا المملكة العراقية عام 1921 بقيادة الملك فيصل الأول.
واجه الحكم الملكي ثورات عديدة، أبرزها ثورة 1920.
وحصل العراق على استقلاله عام 1932 ، لكنه دخل في دوامة من الانقلابات والاضطرابات.
الجمهورية والبعث وصدام حسين
في 14 تموز 1958، أُعلنت الجمهورية العراقية بعد الإطاحة بالنظام الملكي.
وفي السبعينيات، سيطر حزب البعث بقيادة صدام حسين على الحكم، فبدأت مرحلة من التحديث النفطي .
شهد العراق حربًا دموية مع إيران (1980–1988)، ثم غزا الكويت سنة 1990، مما أدى إلى حرب الخليج الأولى وعقوبات دولية شديدة.
الغزو الأمريكي 2003 وما بعده
في عام 2003، شنت الولايات المتحدة غزوًا شاملاً على العراق، أسقطت فيه نظام صدام حسين، وبدأت فوضى عارمة.
ظهر الإرهاب، وتمزق المجتمع على أسس طائفية، وسيطر تنظيم "داعش" على مناطق واسعة، قبل أن يُهزم بصعوبة.
العراق اليوم: جراح الماضي وآمال المستقبل
رغم ما مرّ به العراق من ويلات، يبقى شعبه حيًا.
الثقافة العراقية، من الشعر إلى الفنون إلى المطبخ، لا تزال حية نابضة.
واليوم، يقف العراق على مفترق طرق: هل يستعيد مجده القديم، أم يبقى رهينة للماضي؟
الخاتمة
العراق... لا يموت
العراق ليس مجرد بلد على الخريطة، بل روح التاريخ.
من سومر إلى بغداد، من جلجامش إلى المتنبي، من حمورابي إلى صدام، كلها فصول من كتاب طويل… كتاب اسمه العراق. وربما هذا البلد، الذي نُكبت حضاراته مرارًا، يُعلمنا درسًا واحدًا: الرماد لا يعني الموت… فقد يولد من تحته طائر العنقاء.
إليكم فيديو مميز عن تاريخ العراق الكامل بشكل ملخص :
المصادر
1. History of Mesopotamia – Britannica
https://www.britannica.com/place/Mesopotamia-historical-region-Asia
2. Ancient Iraq – World History Encyclopedia
https://www.worldhistory.org/Iraq/
3. Civilizations of Ancient Mesopotamia – Khan Academy
4. Iraq Timeline – BBC
https://www.bbc.com/news/world-middle-east-14546763
5. Iraq – Encyclopaedia Britannica (Modern History Section)
https://www.britannica.com/place/Iraq/Modern-history
6. Iraq Country Profile – UN Data