طاعون الرقص: السر وراء أغرب حادثة في تاريخ أوروبا

Nov 20

لطالما كانت ظاهرة "طاعون الرقص" واحدة من أكثر الظواهر الغريبة والغامضة في التاريخ الأوروبي، إذ اجتاحت مجموعة من المدن الأوروبية في القرون الوسطى، وخصوصًا خلال القرن السادس عشر، ودفعت المئات من الأفراد إلى الرقص بشكل مستمر ومتواصل لأيام وأحيانًا أسابيع، أحيانًا إلى درجة العجز الجسدي والموت. وقد تركت هذه الظاهرة أثراً كبيراً في السجلات التاريخية، وفتحت الباب أمام العديد من التفسيرات الطبية والاجتماعية والنفسية، لكنها ما زالت حتى اليوم لغزًا لم يتم حله بالكامل.

وصف الظاهرة

السجلات التاريخية تشير إلى أن طاعون الرقص كان يظهر فجأة ودون مقدمات واضحة، حيث كان الأفراد يخرجون إلى الشوارع يرقصون بلا توقف، تتأرجح أجسادهم في حركات متكررة ومتشنجة، ويصعب عليهم السيطرة على أنفسهم. وقد سجلت بعض الحالات وفاة الأشخاص نتيجة الإرهاق الشديد أو الجفاف أو أمراض القلب، بينما بقي آخرون راقصين حتى تم إخراجهم بالقوة أو بعد أيام من الهياج المستمر.

أحد أشهر الأمثلة على هذه الظاهرة حدث في مدينة ستراسبورغ الفرنسية عام ١٥٦٤، حيث اندلع الرقص الجماعي بين مئات الأشخاص، واستمر لعدة أيام، مما دفع السلطات المحلية إلى محاولة السيطرة على الوضع من خلال دعوات دينية، وصلوات لطرد الأرواح الشريرة، ولكن دون جدوى تذكر. كما سجلت حالات مشابهة في مدن ألمانية أخرى مثل كولونيا، ونورمبرغ، وميونخ، مما يشير إلى أن الظاهرة لم تكن محلية فحسب، بل كانت شائعة في مناطق متعددة من أوروبا الغربية في فترة معينة.

المؤرخون المعاصرون للطاعون الراقص تركوا لنا وصفًا دقيقًا لما حدث. كتب الطبيب يوهان فيشر، الذي عاش في ستراسبورغ، أن الرقصين كانوا يتدحرجون على الأرض، ويصرخون، ويتحركون بلا توقف، كما أن محاولة إخراجهم أو تهدئتهم كانت غالبًا تثير غضبهم أو تزيد من الهياج النفسي لديهم. وقد وصف البعض حالات وفاة مفاجئة نتيجة الإرهاق الجسدي، بينما استمر آخرون في الرقص لساعات طويلة، أحيانًا أكثر من أسبوع كامل.

النظريات التاريخية

على مر القرون، حاول المؤرخون والباحثون تقديم تفسيرات لهذه الظاهرة الغريبة. إحدى أبرز النظريات تشير إلى أن طاعون الرقص كان نوعًا من الهستيريا الجماعية، إذ تنتشر الحالة النفسية بين مجموعة كبيرة من الأفراد تحت ضغط اجتماعي أو نفسي شديد. في أوروبا في القرن السادس عشر، كانت المجاعات، والحروب، والأوبئة مثل الطاعون، والجدري، تمثل ضغوطًا متراكمة على المجتمع، مما خلق بيئة خصبة لانتشار هذه الظاهرة.

كما اقترح بعض الباحثين أن الظاهرة قد تكون مرتبطة بالخرافة والدين، إذ كان يُنظر إلى الرقص المستمر أحيانًا كعقوبة إلهية، أو وسيلة للشيطان لاختبار المؤمنين. وقد دعمت الكنيسة في بعض الحالات الطقوس الدينية والصلوات لطرد الأرواح الشريرة، وهو ما يعكس الدور الكبير للعقائد الدينية في تفسير الظواهر الغريبة في تلك الحقبة.

النظريات الطبية

من منظور طبي، ظهرت فرضيات مرتبطة بالتسمم الغذائي. أبرز هذه الفرضيات تتعلق بفطر الأرغوت الذي ينمو على حبوب القمح والشعير المخزنة بشكل سيء، ويحتوي على مواد كيميائية تسبب التشنجات العصبية والهلاوس، وقد تكون سببًا في الرقص المستمر والحركات اللا إرادية. ويشير الباحثون إلى أن استهلاك الخبز المصنوع من هذه الحبوب الملوثة ربما أدى إلى ظهور أعراض مشابهة للرقص المستمر، مع تفسيرات عصبية تتعلق بانقباض العضلات المستمر واضطرابات الحركة.

الدراسات النفسية الحديثة

في العصر الحديث، تم تحليل ظاهرة طاعون الرقص من خلال علم النفس الاجتماعي وعلم الأعصاب. أظهرت الدراسات أن الهستيريا الجماعية يمكن أن تنتشر بسرعة بين مجموعات بشرية تحت ضغوط نفسية شديدة، وأن السلوكيات المتطرفة، مثل الرقص المستمر، يمكن أن تكون شكلًا من أشكال التفريغ العصبي للطاقة المكبوتة. كما أن الحالة النمطية للرقص المستمر تشبه أعراض اضطرابات الحركة العصبية الناتجة عن القلق الشديد أو الصدمات النفسية الجماعية.

الطابع الاجتماعي والسياسي

لطاعون الرقص بعد اجتماعي وسياسي أيضًا. ففي تلك الفترة، كان المجتمع الأوروبي يمر بأزمات متعددة، منها المجاعات والحروب والأوبئة، وقد كان الرقص المستمر بمثابة رد فعل جماعي على الضغوط النفسية والاجتماعية. علاوة على ذلك، ساهمت الطبيعة الجماعية للرقص في تعزيز الروابط بين الأفراد داخل المجتمع، رغم أنها كانت ظاهرة مؤلمة وخطيرة، فقد اعتبرها البعض طقسًا جماعيًا للتخفيف من التوتر النفسي أو للتماهي مع حالة الرعب الشديد من الموت والأوبئة.

الطابع الديني

الدين والخرافة لعبا دورًا كبيرًا في تفسير هذه الظاهرة. فقد اعتبر كثير من الناس في القرن السادس عشر أن الرقص المستمر كان نتيجة لعقوبة إلهية، أو تدخلاً شيطانيًا، وأن محاولة تهدئة الرقصيين من دون طقوس دينية صحيحة لن تنجح. وقد استخدمت الكنيسة طقوسًا دينية تشمل الصلاة والصوم والتضرع لطرد الأرواح الشريرة، بينما كان بعض الأطباء يعتقدون أن التفاعل بين الإيمان والخرافة أثر بشكل مباشر على الحالة النفسية للرقصين، مما جعل الرقص يستمر دون توقف.

الحالات المسجلة الأخرى

بالإضافة إلى ستراسبورغ، سجلت حالات طاعون الرقص في عدة مدن ألمانية أخرى. ففي نورمبرغ، مثلاً، ظهر الرقص المستمر بين مجموعة من النساء في سوق المدينة، واستمر لأيام قبل أن يتم احتواؤه عبر تدخل السلطات الدينية والطبية معًا. في كولونيا وميونخ، تم تسجيل حالات أقل عددًا لكنها مشابهة في طبيعتها، مما يشير إلى أن الظاهرة لم تكن مجرد حادثة محلية، بل كانت سلوكًا جماعيًا يتكرر في أوقات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.

التحليل الأكاديمي

يمكن تلخيص التحليل الأكاديمي لظاهرة طاعون الرقص في عدة نقاط رئيسية:

1. الضغط النفسي الجماعي: المجاعات والحروب والأوبئة شكلت ضغطًا نفسيًا شديدًا أدى إلى تفجر الهستيريا الجماعية.

2. العوامل البيئية: تسمم الغذاء بواسطة فطر الأرغوت أضاف بعدًا جسديًا للطاعون، حيث تسبب في تشنجات وحركات لا إرادية.

3. العوامل الدينية والخرافية: الدين والخرافة قدما تفسيرًا للسلوك الجماعي، وعززوا استمرار الظاهرة من خلال الطقوس والصلوات.

4. الطابع الاجتماعي: الرقص كان وسيلة لتفريغ الطاقة المكبوتة، وتعزيز الروابط الجماعية، لكنه كان أيضًا خطيرًا على الصحة العامة.

الخاتمة

يبقى طاعون الرقص إحدى أكثر الظواهر الغريبة في التاريخ البشري، فهو يجمع بين الطبيعة النفسية والاجتماعية والدينية والطبية في إطار واحد. لم يكن مجرد حدث عابر، بل انعكاسًا للضغط النفسي والاجتماعي، والخوف من الموت، وتأثير الخرافة والدين، وربما عوامل بيئية مثل التسمم الغذائي. وبينما يبقى الغموض يكتنف هذه الظاهرة، فإنها تقدم درسًا مهمًا عن تأثير الظروف القاسية على السلوك البشري، وكيف يمكن للأزمات أن تدفع المجتمع إلى استجابات غير معتادة وغير متوقعة.